top of page

   ذاكرة العراق الراهنة

    "وداعا يا جلادي" للحمداني بالفرنسية

   شذا المداد  /  باريس، 2015 

الأربعاء - 28 شهر ربيع الثاني 1436 هـ - 18 فبراير 2015 مـ

مجلة الشرق الأوسط 

غلاف وداعا يا جلادي

الصحفية شذا المداد

     من يملك الآن فصولا من السراب، وجيوشا منهزمة، وما زال يراهن؟ ومن يملك حروبا خاسرة، ورايات مطأطئة وما زال يراهن؟ تلك حكاية العراق الآن، تلك الحكاية القديمة تتجدد ويعيش الأبناء مرارتها، ومَن غير العراقي يجيد المرارة والمراهنة في آن.

ربما رهان صلاح الحمداني كان مختلفا، كان واحدا من هؤلاء الذين اختبروا حكاية المنفى الفرنسي، كما اختبر تجليات الحزن في كل مرة تجرحه فيها الذاكرة العراقية، كأنهم وحدهم من بين سائر نظرائهم العرب يخلصون لها بعد أن عاث فيها ساسة العراق خلال حروب طويلة.

قصة الذاكرة والمكان كانت أحد عناصر عمل صلاح الحمداني «وداعا يا جلادي» الصادر عن دار النشر الفرنسي «لو تان دي سيريز» اشتغل عليه الحمداني بعد زيارة قصيرة قام بها مؤخرا إلى العراق لرؤية عائلته بعد منفى طال 40 عاما، ذاك الذي خرج من بلاده ولم تخرج منه إطلاقا، يحضر الحمداني الآن مجموعة أخرى تختار من بغداد العاصمة عنوانا وبطلا وإرثا ينطلق منه أو قد يعود إليه، تحت عنوان: «العودة إلى بغداد» يصدر قريبا بالألمانية عن دار اللسان في سويسرا، وديوان «قبل أن أموت» مترجم إلى العربية، و «لم يعد ينتظرني أحد هناك»، جميعها رفضت دور النشر العربية طباعتها، يقول الحمداني بهذا الصدد في سؤال «الشرق الأوسط» له: «أكتب بالفرنسية لأنه لا توجد دور عربية تنشر لي، مع الأسف أبحث ولا أجد».

سلط الشاعر والمسرحي العراقي صلاح الحمداني، الضوء للمرة الأخيرة (قد تكون) على المسألة العراقية وتخبطاتها، فكانت كدعوة مفتوحة لتأمل الوجع العراقي، عشية تضاعف مؤثراته الخارجية، كما يبدو اليوم في ظل تهافت واقتتال الجميع على أرض بابلية رحبة، لا في ظل الديكتاتورية البائدة فحسب.

لا فرق بين الاثنين من وجهة نظر صاحب «بغداد سماء مفتوحة» الذي أثث لحنين جديد لمكان لم يعد مطروحا، لمكان لم يعد تعرف ماهيته، بعد أن غيرته السياسة والحرب، والألم السياسي حرفة العراقي حقيقة، الألم الممتد إلى منتصف السبعينات تحديدا، حيث زمن الاستبداد البعثي الذي أتى على كل شيء، ولا تنتهي المجزرة بعد سقوط الحكم، تلك معضلة يقع فيها المثقف العراقي، فالديكتاتورية في مرحلة ما سيطرت على مفاصل الحياة في بغداد والآن تسيطر الميليشيات، يقول «الحمداني» في إحدى قصائده:

ماذا حدث يا عراق؟

قبورك لها أشكال الأجنحة المحدبة

تدفع بها ريح الجثث..

ترتطم كلما يأتي المساء بنافذتي

تترك وشما من دم العيون يسيل

هذه كفي المطروحة تنبض مغرقة بالتاريخ

ها كفي، أعيد النظر، ألوح بالدم شرعا

للقوافل الراحلة من زنزانتي، أعيد النظر

وجهي صدر لذاك الرضيع الذي لا يكف عن العويل،

هناك، بمحاذاة القتلى المتهاويين سهوا

من دموع الله.

 

يطرح الحمداني في «وداعا يا جلادي» فكرة اليتم والاغتراب دون ديكتاتور، بما يشير إلى حالة العبث التي بدأ يعشيها الآن أكثر من أي وقت مضى، فماذا سيفعل بعد موت الديكتاتور، يقول: «أصبحنا أيتاما فعلا» ويسأل نفسه: «بعد رحيل البعث ماذا سيفعل بتاريخ نضاله الذي بقي يخضع لمنفى من نوع آخر، المنفى باق ويتمدد!، سؤال كاد أن يتحول إلى كابوس فأي مصير مجهول ينتظر العراقيون ومن يحاربون الآن؟.
يحب الفرنسيون الحمداني، كان تجربة مختلفة، جاء صغيرا مشردا فقيرا، رعته فرنسا وهو صان ودها كثيرا، كتب لها وعنها وترجم لهم العربية ليفهموا نفسية العربي الأكثر تعقيدا، فأي سبب يجعل الحمداني يبقى منفيا، ذهبت الأسباب وجاءت أخرى، الآخرون المجهولون يسميهم «الحمداني» في قصيدته، الرجل مجهول:

ذات يوم ستنتهي الحرب

ويعود المنفيون

ستكثر الحكايات

وتقام الولائم

سيكذب البعض

ويبالغ البعض الأخر

أما أنت

ستعلق ذاكرتك فوق مشجب الأيام

تسترق السمع

فيك العراق يحيا

وفيك العراق يموت

لا زائر يعرفك، لا مار، لا فصول

وحيد تتطلع فيك الوجوه.

و«بغداد» منحت الجميع ولم يمنحها أحد حبه سوى هؤلاء متعطشي الحريات اتكأوا يوما على المشروع الشيوعي الذي لمع قليلا في بلادهم، فخذلهم وأهدى الحالمين منفى طويلا، وكأن احتمالات سقوط الديكتاتوريات يبدو لا يعني إمكانية انتهاء المنفى الموجع، هذا واضحا في مجمل مسرحيات الشاعر.

هكذا يعنون الحمداني ديوانه قيد النشر «لا أحد ينتظرني هناك» بما يتزامن مع أحداث جسام من قبيل فقدان الموصل وكركوك مع تغيير ديمغرافي عميق يراه يطرأ هناك، عمل يفتح على قضية الأماكن التي لم تعد موجودة الآن على الأقل في مخيلة العراقي نفسه، فالمتطرفون يسطرون ذاكرة أخرى أكثر إيلاما ولدت شعورا جمعيا اشترك فيه العراقيون ليحولوه إلى ألم إبداعي، وكأنه الألم العبقري فعلا، وهو حال العراقي كاظم جهاد، وعالية ممدوح على سبيل المثال، عندها سيكون للمنفى معنى، ساعة ترديد كلمات نفهمها، وحين ينشد الجميع بلا دفوف وتهريج، لعراق جريح لم يستسلم للقتلة.

 

http://aawsat.prod.acquia-sites.com/home/article/292906/%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%86%D8%A9

 

bottom of page